لقد استطاع البعض من الوافدين إلى السياسة في العام 1991 وبقوة نفوذهم المالي استصدار قانون خاص من المجلس النيابي المعين ثلثه آنذاك، وُضع تحت عنوان ” اعمار وسط بيروت وغيره من المناطق المتضررة ” وجاء مفصلاً على قياس مصالحهم وغاياتهم، وكان اول ما نُعت به من مشرعيه انفسهم ” بالقانون المسخ” و” القانون الطرح ” وإلى ما هنالك.
جاء هذا القانون ، الذي اتخذ الرقم 117/91 ، مخالفاً ، لا بل مناقضاً في بعض الأحيان، لأكثر من نص أو مبدأ قانوني لبناني سائد ، في غياب مجلس دستوري في البلاد في العام 1991 . والأدهى من هذا ان أصحاب هذا القانون لم يكتفوا بهذا القدر بل لجأوا إلى مخالفة قانونهم هذا اكثر من مرة عند تطبيقهم اياه .
خالف القانون 117 اولاً جوهر الدستور اللبناني الذي يحظر نزع الملكية الفردية إلا في حالات المنفعة العامة المحققة ، الأمر المشكوك به في مشروع وسط بيروت ، والذي يكفل الحريات العامة ولا سيما حرية التعاقد في الأعمال فلا يجيز ادخال شخص قسراً في مشروع تجاري لهدم المدينة وطمر البحر كمشروع الشركة العقارية.
كما خالف القانون 117 نص الدستور بنزعه الملكية خلافاً لمنطوق التشريعات اللبنانية السائدة لترتيب المناطق واعمارها ولا سيما قانوني التنظيم المدني ومجلس الانماء والاعمار ، فخالف مبدأ إبقاء اهالي المنطقة فيها عندما يتعلق الأمر بالمناطق المنظمة والآهلة كالمدن والقرى ومنها منطقة وسط بيروت، فكان نتيجة ذلك ان أُبعدنا وعيالنا ، وعددنا ستون ألفاً في العام 1991 ، عن منطقتنا وأُخذت اراضينا ومبانينا ومراكز اعمالنا كما مؤسساتنا التجارية والصناعية والحرفية والسياحية الخمسة عشر الفاً ورُمي بنا عراة إلا من اسهم بورصة بخسة على قارعة الطريق .
وخالف هذا القانون المبدأ الواضح في التشريعات اعلاه القاضي بحصول الدولة على نسبة مئوية من مساحة المنطقة المرتبة تضاف إلى مساحة الأملاك العمومية السابقة وذلك لقاء تحملها كلفة البنية التحتية الجديدة في المنطقة ، المكرس في التشريع اللبناني منذ ايام المتصرفية والى اليوم، ولولا حمية البعض في مجلس الانماء والاعمار في حينه لما استطاعت الدولة انتزاع جزء من حصتها هذه .
وخالف هذا القانون البند الصريح في تشريعات ترتيب المناطق بوجوب تمثل الدولة (أي الادارة المعنية) في مجلس ادارة هيئة الترتيب بنسبة حقوقها المادية والمعنوية في المنطقة المعنية، والمتمثلة بكمية الأملاك والمرافق العامة في المنطقة وكم المقدرات الوطنية الموجودة فيها ومساهمتها في التمويل إن وجدت ، وذلك تأميناً لاشراف الدولة على مشروع الترتيب وتيقنا من حسن ادارته، إلا ان القانون 117 تغاضى كلياً عن هذا الحق المشروع للدولة ولولا وجود بعض الأبنية الخاصة للدولة في المنطقة لما استطاعت الحصول على مقعد من أصل اثني عشر مقعداً في مجلس ادارة الشركة ، وهو مقعد واحد وحيد لا يسمع له صوت .
كما خالف القانون 117 منطوق قانون الاستملاك السائد الذي يسمح بالطعن بقرارات لجان التخمين عند حصول غبن فيها بأن جعل قرارات لجنة التخمين العليا لمشروع وسط بيروت “مبرمةً وغير قابلة للطعن بأي طريق من طرق المراجعة العادية أو الاستثنائية بما في ذلك تجاوز حد السلطة ” .
وحتى لو تم التسليم جدلاً بضرورة اعتماد القانون 117 وسيلة الشركة العقارية المشكلة وفقاً لقانون التجارة لترتيب مناطق عمله ، فانه خالف قانون التجارة عينه عندما نص على اعفاء الشركة العقارية المنشأة بموجبه من موجب اعتماد مفوض مراقبة ثان للشركة معين من محكمة التجارة في المنطقة، مما افسح المجال فيما بعد لادارة الشركة العقارية بالكثير من التجاوزات .
انما اخطر ما في مخالفات القانون 117 الصادر العام 1991 هو ضربه عرض الحائط باتفاق الطائف الصادر قبله بسنتين والذي أكد على قدسية ارتباط الانسان اللبناني بأرضه وعلى أهمية عودة جميع مهجري الحرب إلى الأماكن التي تهجروا منها ، لا بل على توفير كل اشكال الدعم المادي لتحقيق هذه العودة من تعويضات أضرار وأعطال ، فناقض القانون 117 هذا التوجه بالصميم وقال بخروج جميع اهالي المنطقة منها إلى غير رجعة، وانسحب هذا الأمر على وزارة المهجرين نفسها المسيسة منذ تأسيسها .
ولو توقف العبث بالقوانين عند حد استصدار القانون 117 لربما كنا عرفنا التعامل معه، انما واصل اصحاب المشروع بعد وضع هذا القانون والنظام الأساسي للشركة موضع التطبيق التلاعب والالتفاف على هذين النصين نفسيهما .
واول الغيث كانت التخمينات التي كانت بالشكل مخالفة تماماً لأصول تخمين المؤسسات التجارية المحددة في قانون الاستملاك السائد ومغفلة بالكامل لعنصري الزبائن والاسم التجاري للمؤسسة ، أما بالمضمون فكانت معلبة مسبقاً وموحى بها من اصحاب المشروع إلى لجان التخمين بشكل ” مؤشرات اسعار موضوعة من خبراء اختصاصيين” ومتزامنة مع تعويضات اتعاب باهظة إلى هذه اللجان، وقد جاءت نتائج هذه التخمينات تخصيصَ تعويض عن المتر المربع من ارض الوسط التجاري من 1500 دولار امريكي وتخصيصَ تعويض عن المتر المربع من البناء من 90 دولار اميركي ، فقط لا غير.
واذا كان أمل اصحاب الحقوق في حينه ان تصحح بورصة الأسهم الاجحاف الذي اقترفته التخمينات، فقد جاء تلاعب الشركة بسعر السهم في البورصة ، تارة متدخلة فيه صعوداً أو نزولاً وطوراً ملتفة حول البورصة بصفقات من خارجها بمخالفة صريحة لنظام البورصة اشتكت منها لجنتها ، ليوقعَ اصحاب الحقوق ضحية هذه اللعبة الشيطانية ويجعلهم يصرّفون أسهمهم في البورصة تحت وطأة الخوف والهلع بأربعة أو خمسة دولارات ، اي بنصف قيمة السهم الاسمية .
وكأن هذا لا يكفي ، فقد اقدمت الشركة بلا تأخير على الالتفاف المبرمج على القانون 117 وعلى النظام الأساسي للشركة، فبدأت بفتح رأسمال الشركة للاجانب والشركات الأجنبية خلافاً للقانون 117 نفسه الذي يحصره باللبنانيين والعرب، مُدخلة على الرأسمال المجهولَ والمعلومَ من المساهمين الدوليين غير المكترثين بمصلحة اهالي الوسط واصحاب الحقوق . وأتبعته بتمديد عمر المشروع إلى خمسة وثلاثين سنة خلافاً للمدة المحددة في النظام الأساسي بخمسة وعشرين سنة ، مُؤخِّرة انجاز المشروع وآخذة اصحاب الحقوق رهائن لعشر سنوات اضافية. واخيراً وليس آخراً، أقدمت على الدوس الصريح على نص القانون 117 وخالفت بند موضوعها المحدد فيه والذي يحصر عملها ” بإعادة ترتيب واعمار منطقة أو اكثر من المناطق المتضررة في لبنان بسبب الأحداث الأمنية ” ، فذهبت إلى الخارج ودخلت في مشاريع عقارية مغامرة في اماكن مختلفة من العالم مُوظِّفة اموال الشركة في هذه المشاريع وهادرة الكثير منها في مشاريع خاسرة .
ناهيك عن الالتفاف على احكام نظام الاسترداد لتعجيز عمليات الاسترداد والالتفاف على قانون الآثار بعدم عرض المخططات التوجيهية على مديرية الآثار والامعان في التنفيعات المالية من مالية الشركة للمقربين وتهريب الأرباح عبر شركات الوساطة واصدار المراسيم الوزارية التعديلية لنظام البناء أو الرافعة للاستثمار وفق الحاجة والطلب وغيرها الكثير.
فكان نتيجة كل ما سبق ان اضمحلّت حقوقنا وتقهقرت حيواتنا وبات الكثير منا يعيش في غربة عن وطنه بعد ان كان هو نفسه من صنع عزة هذا الوطن وازدهاره الغابر.
ومن نتيجة ما سبق ان باتت مدينة بيروت والبلاد بدون وسط تجاري حقيقي فتلاشت التجارة وفقد الاقتصاد محركه الأساسي فوقع ولأول مرة في حلقة مفرغة لا يقوى على الخروج منها .
وربما اخطر النتائج لما سبق هو فقدان الشعب اللبناني لساحة تلاقيه الاساسية في وسط عاصمته فبات مشتتاً مفرقاً ، وبات وسط العاصمة وما يحوي من مقدرات ومدلولات بيد حفنة من الرساميل المجهولة المصدر والهوية.
ان الحل لهذا الوضع المأزوم انسانياً واقتصادياً ووطنياً لا يمكن ان يكون إلا بالعودة إلى الثوابت الوطنية والقانونية والادارية التي خرقها مشروع الشركة العقارية والقانون 117 اساساً، وتحديداً تصحيح القانون 117 لجهة :
أولاً: تخصيص الدولة بمقاعد في مجلس ادارة الشركة موازية للحقوق المعنوية والمساحات العامة التي لها في المنطقة مما يعيد للدولة دورها في توجيه والاشراف على المشروع ويؤمن عدم جنوحه عن الأهداف الانمائية المنشودة منه وتوازناً دقيقاً بين مختلف الفرقاء المعنيين به .
ثانياً: اعطاء اصحاب الحقوق الحق باستبدال الاسهم المالية المعطاة لهم بحقوق عينية عقارية في المنطقة موازية للحقوق التي كانت لهم فيها بعد اقتطاع نسبة مئوية منها لصالح الدولة مما يعيد بعض الاعتبار لهم ويؤمن عودتهم السريعة إلى المنطقة ومباشرتهم بإحيائها واعادتها قلباً نابضاً للبلاد .
ثالثاً: اعطاء الدولة رصيد مساحة النسبة المئوية من المساحات الخاصة اعلاه لقاء تحمّلها كلفة البنية التحتية في المنطقة المرتبة مما يعيد لها حقها الشرعي والقانوني ويعطيها مساحة ثمينة في وسط بيروت تسمح لها ان تقدم بواسطتها خدمات وتسهيلات نوعية للعامة .